السؤال
هل يمكن اعتبار الاعتكاف من الخصائص التي اختُصّ بها النبي ﷺ، كالوصال الذي نهى أصحابه عنه، مع كونه فعله بنفسه؟ وهل يُعدّ الاعتكاف من هذا القبيل، خاصة أن بعض الصحابيات نُهين عنه بعد أن أُذن لعائشة وحفصة، ثم أُمر بنزع بناء عائشة وحفصة وزينب؟
فهل يُفهم من ذلك أن النهي لبعضهنّ هو نهيٌ للجميع؟ أم إن هذا النوع من النهي لا يُعدّ من أساليب النهي التشريعي العام في الشريعة؟
وقد قرأت في بعض كتب المالكية أن الصحابة رضي الله عنهم لم يزهدوا في شيء كما زهدوا في الاعتكاف، ونُقل عن الإمام مالك قوله: "ما زلت أفكر في ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبي ﷺ حتى قُبض، وهم أتبع الناس لهديه وآثاره، حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه عليه السلام وفعله." فما هو توجيه الإمام مالك رحمه الله لاعتكاف أزواج النبي ﷺ بعد وفاته؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الاعتكاف سنّة، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلها أزواجه من بعده، وليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في فتح الباري للحافظ ابن حجر: ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقد أخرجه مسلم من هذا الوجه.
ثانيها: حديث عائشة مثل حديث ابن عمر، وزاد حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، فيؤخذ من الأول اشتراط المسجد له، ومن الثاني أنه لم ينسخ، وليس من الخصائص. اهـ.
وفي مرعاة المفاتيح: شرح مشكاة المصابيح: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) أي: من بعد موته، إحياء لسنته، وإبقاء لطريقته. فيه دليل على أن الاعتكاف ليس من الخصائص، وأن النساء كالرجال في الاعتكاف. اهـ.
وبخصوص نهيه صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه عن الاعتكاف في بعض الحالات، فلم يكن نهيًا عامًا عن الاعتكاف، بل كان هذا النهي لأسباب مذكورة في كتب أهل العلم.
جاء في مرعاة المفاتيح: وأمّا إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن، فلمعنى آخر. فقيل: خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه، أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف، أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن. اهـ.
ويقول الحافظ ابن حجر في الفتح: ووقع في رواية أبي معاوية عند مسلم وأبي داود، فأمرت زينب بخبائها، فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائها فضرب، وهذا يقتضي تعميم الأزواج بذلك، وليس كذلك، وقد فسّرت الأزواج في الروايات الأخرى بعائشة، وحفصة، وزينب، فقط، وبين ذلك قوله في هذه الرواية أربع قباب.
قوله: فترك الاعتكاف في رواية أبي معاوية، فأمر بخبائه فقُوّض، وهو بضم القاف، وتشديد الواو المكسورة بعدها ضاد معجمة، أي: نقض، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة، حرصًا على القرب منه خاصة، فيخرج الاعتكاف عن موضوعه، أو لمَّا أذن لعائشة وحفصة أولاً كان ذلك خفيفًا بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد بقية النسوة على ذلك، فيضيق المسجد على المصلين، أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته، وربما شغلنَه عن التخلي لما قصد من العبادة، فيفوت مقصود الاعتكاف قوله: فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرًا من شوال. اهـ.
أمّا ما ذكرته عن المالكية في شأن الاعتكاف، فإن الإمام مالكًا قال: إنه لم يبلغه اعتكاف الصحابة بعد النبي صلى الله عليه، وسلم، ويشمل ذلك اعتكاف أمهات المؤمنين فلعله لم يبلغه، وذكر أن الاعتكاف شديد مثل صوم الوصال.
ففي كتاب المدونة وهي من مراجع المالكية: قال مالك: ولم يبلغني أن أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا أحدًا من سلف هذه الأمة، ولا ابن المسيب، ولا أحدًا من التابعين، ولا أحدًا ممن أدركت ممن أقتدي به اعتكف، ولقد كان ابن عمر من المجتهدين، وأقام زمانًا طويلًا، فلم يبلغني أنه اعتكف، إلا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولست أرى الاعتكاف حراما، فقيل لم تراهم تركوه؟ فقال: أراه لشدة الاعتكاف عليهم؛ لأن ليله ونهاره سواء. وقد نهى رسول الله عن الوصال، فقالوا له: إنك تواصل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. اهـ.
وقد حمل الحافظ ابن حجر كلام الإمام مالك على الاعتكاف بصفة مخصوصة، وصرّح بعض المالكية بسنية الاعتكاف كابن العربي، وابن بطال.
يقول الحافظ في الفتح: وأمّا قول ابن نافع عن مالك، فكَّرتُ في الاعتكاف وترك الصحابة له مع شدة اتباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف؛ إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن. اهـ.
وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي، وقال: إنه سنة مؤكدة.
وكذا قال ابن بطال في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكده.
وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أنه مسنون. اهـ.
والله أعلم.