الوجه الرابع : أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول [1] فلا يطاع إلا من كان ذا عدل ، لا من كان ظالما . فمعلوم أن ليس بأعظم اشتراط العدل في الولاة [2] من اشتراطه في الشهود [3] فإن الشاهد قد [4] يخبر بما لا [5] يعلم ، فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به ، وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر [6] يعلم حكمه من غيره ، فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية .
[ ص: 396 ] ولهذا قال تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) [ سورة الحجرات : 6 ] فأمر بالتبين [7] إذا جاء الفاسق بنبأ . ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها .
وهذا مما يوافق عليه الإمامية ، فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار [8] فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات [ كلها ] [9] ( * بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج ، الذين يقولون : إن الفسق يحبط الحسنات كلها * ) [10] ، ولو حبطت حسناته كلها [11] لحبط إيمانه ، ولو حبط إيمانه لكان [12] كافرا مرتدا فوجب [13] قتله .
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع [14] تدل على أن ، فدل على أنه ليس بمرتد . الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد
وكذلك قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الأية [ سورة الحجرات : 9 ] يدل [15] على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغي .
[ ص: 397 ] وقد ثبت في الحديث [16] الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " [17] عنده لأخيه مظلمة من عرض [18] أو شيء فليتحلله منه [19] اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " . أخرجاه في الصحيحين . من كانت [20] . فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي [21] المظلوم منها حقه .
وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [22] قال : " [23] الجبال وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا [24] ، فيعطى [25] هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإذا فنيت [ ص: 398 ] حسناته قبل أن يقضى [26] ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار " . رواه ما تعدون المفلس فيكم ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار . قال : " المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال . مسلم [27]
وقد قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ سورة هود : 114 ] ، ( * فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته [28] وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها [29] لم تكن الحسنات قد أذهبتها ، وليس هذا موضع بسط ذلك .
والمقصود [ هنا [30] ] * ) [31] : أن الله جعل الفسق مانعا من قبول النبأ [32] والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة . وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع : أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ، ثم يكفي في ذلك الظاهر ، فإذا ، فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى . اشترط العدل في الولاية
فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط في [ ص: 399 ] الشهادة [33] يبين ذلك [34] أن الإمامية [35] وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين ، وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولى ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط [36] فأنزل الله تعالى [37] ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) [ سورة الحجرات : 6 ] [38] - رضي الله عنه - وعلي [39] كان كثير من نوابه يخونه [40] ، وفيهم من هرب عنه ، وله مع نوابه سير معلومة . فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد ، وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ، ولم يحصل به [41] منفعة ، لا في الدين ولا في الدنيا .
[ ص: 400 ] مثل كثير من النساك الذين يشترطون في الشيخ أن يعلم أمورا لا يكاد يعلمها أحد من البشر ، فيصفون الشيخ بصفات من جنس صفات المعصوم عند الإمامية . ثم منتهى [42] هؤلاء اتباع [43] شيخ جاهل أو ظالم [44] ، واتباع هؤلاء لمتول ظالم أو [45] جاهل مثل الذي جاع وقال : لا يأكل [46] من طعام البلد [47] حتى يحصل له مثل طعام أهل الجنة [48] ، فخرج إلى البرية فصار لا يحصل له إلا علف البهائم ، فبينا هو يدعو إلى مثل طعام الجنة ، انتهى أمره إلى علف الدواب كالكلأ النابت في [49] المباحات . وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ، ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم ، كما قد رؤي ذلك وجرب .