الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع : أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول [1] فلا يطاع إلا من كان ذا عدل ، لا من كان ظالما . فمعلوم أن اشتراط العدل في الولاة  ليس بأعظم [2] من اشتراطه في الشهود [3] فإن الشاهد قد [4] يخبر بما لا [5] يعلم ، فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به ، وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر [6] يعلم حكمه من غيره ، فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية .

                  [ ص: 396 ] ولهذا قال تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) [ سورة الحجرات : 6 ] فأمر بالتبين [7] إذا جاء الفاسق بنبأ . ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها .

                  وهذا مما يوافق عليه الإمامية ، فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار  [8] فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات [ كلها ] [9] ( * بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج ، الذين يقولون : إن الفسق يحبط الحسنات كلها * ) [10] ، ولو حبطت حسناته كلها [11] لحبط إيمانه ، ولو حبط إيمانه لكان [12] كافرا مرتدا فوجب [13] قتله .

                  ونصوص الكتاب والسنة والإجماع [14] تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد  ، فدل على أنه ليس بمرتد .

                  وكذلك قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الأية [ سورة الحجرات : 9 ] يدل [15] على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغي .

                  [ ص: 397 ] وقد ثبت في الحديث [16] الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كانت [17] عنده لأخيه مظلمة من عرض [18] أو شيء فليتحلله منه [19] اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار " . أخرجاه في الصحيحين . [20] . فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي [21] المظلوم منها حقه .

                  وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [22] قال : " ما تعدون المفلس فيكم ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار . قال : " المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال [23] الجبال وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا [24] ، فيعطى [25] هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإذا فنيت [ ص: 398 ] حسناته قبل أن يقضى [26] ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار " . رواه مسلم . [27]

                  وقد قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ سورة هود : 114 ] ، ( * فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته [28] وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها [29] لم تكن الحسنات قد أذهبتها ، وليس هذا موضع بسط ذلك .

                  والمقصود [ هنا [30] ] * ) [31] : أن الله جعل الفسق مانعا من قبول النبأ [32] والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة . وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع : أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ، ثم يكفي في ذلك الظاهر ، فإذا اشترط العدل في الولاية  ، فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى .

                  فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط في [ ص: 399 ] الشهادة [33] يبين ذلك [34] أن الإمامية [35] وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين ، وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم [36] فأنزل الله تعالى [37] ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) [ سورة الحجرات : 6 ] [38] وعلي - رضي الله عنه - [39] كان كثير من نوابه يخونه [40] ، وفيهم من هرب عنه ، وله مع نوابه سير معلومة . فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد ، وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ، ولم يحصل به [41] منفعة ، لا في الدين ولا في الدنيا .

                  [ ص: 400 ] مثل كثير من النساك الذين يشترطون في الشيخ أن يعلم أمورا لا يكاد يعلمها أحد من البشر ، فيصفون الشيخ بصفات من جنس صفات المعصوم عند الإمامية . ثم منتهى [42] هؤلاء اتباع [43] شيخ جاهل أو ظالم [44] ، واتباع هؤلاء لمتول ظالم أو [45] جاهل مثل الذي جاع وقال : لا يأكل [46] من طعام البلد [47] حتى يحصل له مثل طعام أهل الجنة [48] ، فخرج إلى البرية فصار لا يحصل له إلا علف البهائم ، فبينا هو يدعو إلى مثل طعام الجنة ، انتهى أمره إلى علف الدواب كالكلأ النابت في [49] المباحات . وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ، ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم ، كما قد رؤي ذلك وجرب .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية